كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل لبعضهم: ما البلاغة؟ قال: مَعْرفة الوَصْل من الفَصل.
وقيل لآخر: ما البلاغة؟ قال: إيجاز الكلام، وحَذْف الفُضُول، وتَقْرِيب البعيد.
وقيل لبعضهم: ما البلاغة؟ قال: أن لا يُؤتى القائل من سُوء فَهْم السامع، ولا يُؤتى السّامع من سُوء بيَان القائل.
وقال مُعاوية لصُحارٍ العَبْديّ: ما البلاغة؟ قال: أن تُجيب فلا تُبطئ، وتُصيب فلا تُخْطئ. ثمّ قال: أَقِلْني يا أمير المؤمنين؛ قال: قد أَقَلْتكَ. قال: لا تُبْطئ ولا تُخطئ.
قال أبو حاتم: استطال الكلامَ الأوّل فاستقَال، وتَكلّم بأوجزَ منه.
وسمع خالدُ بن صَفْوان رجلًا يتكلّم ويُكثْر فقال، اعلم رحمك الله أن البلاغة ليست بحِفّة اللسان، وكَثْرة الهَذَيان، ولكنها بإصابَة المَعْنى، والقَصْدِ إلى الحُجَّة. فقال له: أبا صَفْوان، ما من ذَنْب أعظم من اتْفاق الصَّنعة.
وتكلّم رَبيعة الرَّأي يومًا فأكثر وأُعجب بالذي كان منه وإلى جَنْبه أعرابيٌّ، فالتفتَ إليه، فقال: ما تَعُدّون البلاغةَ يا أعرابيّ؟ قال: قِلّة الكلام وإيجاز الصواب، قال: فما تَعُدّون العِيّ؟ قال: ما كنت فيه منذُ اليوم. فكأنما أَلْقمه حَجرًا.
ومن أمثالهم في البلاغة قولُهم: يُقِلّ الحزّ ويُطبِّق اْلمِفْصل. وذلك أنّهم شَبّهوا البَلِيغ المُوجز الذي يُقل الكلام، ويُصيب الفُصول والمَعاني، بالجزَّار الرَّفيق يقل حَزّ اللَّحم ويُصيب مَفاصله.
ومثله قولُهم: يَضع الهِناء مواضع النُّقبِ أي لا يتكلّم إلا فيما يجب فيه الكلامُ، مِثْل الَطالِي الرَّفيق الذي يضع الْهناء مواضع النُّقب. وآلْهِناء؛ القطران. والنُّقب: الجَرَب.
وقولهم: قَرْطَس فلان فأصاب الثغرة، وأصاب عَيْن القِرْطاس. كل هذا مَثل للمُصيب في كلامه الموجز في لَفْظه.
قيل للعَتّابي: ما البلاغة؟ قال: إظهار ما غمَض من الحقّ، وتَصْوير الباطل في صورة الحق.
وقيل لأعرابيّ: مَن أَبلغ الناس؟ قال: أَسْهَلهم لَفظًا وأحسنهم بَدِيهة.
وقيل لآخر: ما البلاغة؟ فقال: نشر الكلام بمعانيه إذا قَصُر، وحُسْن التأليف له إذا طال.
وقيل لآخر: ما البلاغة؟ فقال: قَرْع الحجَّةِ ودُنُوّ الحاجة.
وقيل لآخر: ما البلاغة؟ قال: الإيجاز في غَيْر عَجْز، والإطناب في غَيْر خَطَل.
وقيل لغيره: ما البلاغة؟ قال: إقلال في إيجاز، وصَواب مع سُرعة جواب.
قيل لليُونانيّ: ما البلاغة؟ قال: تَصْحيح الأقسام واختيار الكلام.
وقيل لبعضهم: مَن أبلغ الناس؟ قال: مَن ترك الفُضُول واقتصر على الإيجاز.
وكان يقال: رسولُ الرجل مكان رَأْيه، وكِتَابه مكان عَقله.
وقال جَعفر بن محمد عليه السلام: سُمِّي البليغ بليغًا لأنه يَبلغ حاجتَه بأَهْون سعيه.
وسُئل بعضُ الحكماء عن البلاغة فقال: مَن أخذ مَعاني كثيرة فأدَاها بألفاظ قليلة، وأخذ معاني قليلة فولّد منها لفظًا كثيرًا، فهوِ بَليغ.
وقالوا: البلاغة ما حَسُن من الشعر المنظوم نثره، ومن الكلام المنثور نَظْمه.
وقالوا: البلاغة ما كان من الكلام حَسنًا عند استماعه، مُوجزًا عند بَدِيهته.
وقيل: البلاغة: لَمْحة دالّة على ما في الضَّمير.
وقال بعضُهم: إذا كفاك الإيجاز فالإكثار عِيّ، وإنما يَحْسن الإيجاز إذا كان هو البَيان: ولبعضهم:
خَيْر الكلامٍ قَليلُ ** على كَثير دَلِيلُ

والعِيُّ مَعنى قَصِيرُ ** يَحويه لفظٌ طَويلُ

وقال بعضُ الكتَّاب: البلاغةُ مَعْرفة الفَصْل من الوَصْل. وأَحْسن الكلام القَصْد وإصابة المعنى.
قال الشاعر:
وإذا نَطقتَ فلا تكن أَشِرًا ** وآقصِدْ فخيرُ الناس مَن قصَدَا

وقال آخر:
وما أحدٌ يكون له مَقالٌ ** فيَسْلَم من مَلامٍ أو أثامِ

وقال:
الدَّهرُ ينقص تارةً ويَطولُ ** والمَرْءُ يَصْمت مَرَّةً ويَقُول

والقولُ مخْتلف إذا حصَّلته ** بَعْضٌ يرَدّ وبعضُه مَقبول

وقال:
إذا وَضَح الصواب فلا تَدَعْه ** فإنّك كلّمكا ذُقْت الصَّوابَا

وجدتَ له على اللّهوات بَرْدًا ** كبَرْد الماء حين صَفا وطابا

وقال آخر:
ليس شَأْنُ البليغ إرسالَه القو ** لَ بطُول الإسهاب والإكثار

إنما شأنُهُ التَّلطُّف لِلْمَع ** نىَ بحُسْنِ الإيراد والإصدْارِ

وجوه البلاغة:
البلاغة تكون على أَرْبعة أَوْجه: تكون باللّفظ والخطّ والإشارة والدِّلالة، وكلٌّ منها له حظّ من البلاغة والبَيَان، ومَوْضع لا يجوز فيه غيرُه، ومنه قولُهم: لكل مَقام مَقال، ولكل كلام جَواب، ورُبّ إشارة أبلغً من لفظ. فأمّا الخطّ والإشارة فمفْهومان عند الخاصة أو أكثر العامة. وأمّا الدِّلالة: فكل شيء دلَّك على شيء فقد أخبرك به، كما قال الحكيم: أشهد أنّ السمواتِ والأرضَ آيات دالاّت، وشَواهد قائمات، كلٌّ يُؤدّي عنك الحجَّة، ويَشهد لك بالرُّبوبية.
وقال آخر: سَل الأرضِ فقُل: مَن شَقَّ أنهارَكِ، وغَرَس أشجارَكِ، وجَنَى ثمارك؛ فإن لم تُجِبك إخباراَ، أجابتك اعتبارًا.
وقال الشاعر:
لقد جِئْتُ أبغِي لِنَفْسي مُجيرًا ** فَجِئْت الْجبَالَ وجِئْتُ البُحُورَا

فقال ليَ البحرُ إذ جِئْتُه ** وكيف يُجير ضريرٌ ضَريرا

وقال آَخر: نَطقتْ عَيْنُه بما في الضَّمير وقال نُصِيب بن رَباح:
فَعاجُوا فأَثْنَوْا بالذي أنت أهلُه ** ولو سَكتُوا أثنت عليك الحَقَائِبُ

يُرِيد: لو سكتوا لأثنت عليك حقائبُ الإبل التي يَحْتقبها الرَّكب من هِباتك. وهذا الثَّناء إنما هو بالدَّلالة لا باللفظ.
وقال حَبِيب:
الدار ناطَقةٌ وليست تَنْطقُ ** بدُثورها أنَّ الجديد سَيخْلُقُ

وهذا في قديم الشعرِ وحَديثه، وطارفِ الكلام وتَليده، أكثر من أن يُحيط به وَصْف، أو يأتَي من ورائه نعْت.
وقال رجل للعتّابي: ما البلاغة؟ قال: كل من بلّغك حاجته وأَفهمك معناه، بلا إعادة ولا حُبْسة ولا استعانة، فهو بَليغ. قالوا: قد فَهمنا الإعادة والحُبسة، فما معنى الاستعانة؟ قال. أن يقول عند مَقاطع كلامه: اْسمع منِّي، وافهم عنِّي، أو يمسح عُثْنونه، أو يَفْتِل أصابعه، أو يُكْثر التفاته من غير مُوجب، أو يتساءل من غير سُعلة، أو يَنبهر في كلامه.
وقال الشاعر:
مَليْء ببُهر والتفاتٍ وسُعْلة ** ومَسْحِة عُثْنون وفَتْل الأصابع

وهذَا كلُّه من العيّ.
وقال أبْرويز لكاتبه: اعلم أنَّ دعائم المَقالات أربع، إن التُمس لها خامسة لم تُوجد، وإن نَقصت منها واحدة لم تتمّ، وهي: سُؤالك الشيء، وسُؤالك عن الشيء، وأمْركِ بالشيء، وإخبارك عن الشيء. فإذا طلبت فأسجح، وإذا سألتَ فأَوْضح، وإِذا أمرت فأحكم، وإِذا أَخبرت فحقِّق. وأجمع الكَثِير مما تريد في القَليل مما تقول.
يريد الكلام الذي تَقِل حروفه، وتَكثر معانيه.
وقال ربيعة الرِّأي: إني لأسمع الحديثَ عُطْلًا فأشنِّفه وأُقرّطه فيَحْسُن، وما زِدْت فيه شيئًا ولا غيرت له معنى.
وقالوا: خيرُ الكلام ما لم يحْتج بعدَه إلى كلام.
وقال يحيى: الكلامُ ذُو فنون، وخيره ما وفق له القائل، وانتفع به السامع وللحسن بن جَعفر:
عجبت لإدْلال العَيِّ بنَفسه ** وصَمْتِ الذي قد كان بالحقِّ أَعْلَمَا

وفي الصمْتِ سَترٌ للعَيِّ وإِنما ** صَحِيفة لُبِّ المرء أن يتكلما

وصف أعرابي بليغًا فقال: كأنّ الألْسن رِيضَتْ فما تَنْعَقِد إِلا على وُده، ولا تَنطق إلا ببَيانه.
وَصف أبو الوَجيه بلاغةَ رجل فقال: كان واللّه يَشُول بلسانه شولان البَرُوق ويتخلّل به تخلل الحيّة.
وللعرب من مُوجز اللّفظ ولَطِيف المعنى، فصول عَجيبة، وبدائع غريبة، وسنأتي على صَدْر منها إن شاء الله تعالى.
فصول من البلاغة:
قدم قُتيبة بن مُسلم خُراسانَ واليًا عليها فقال: مَن كان في يده شيء من مال عبد الله بن خازم فَلْيَنْبِذْه، وإن كان في فيه فَليَلْفِظه، وإن كان في صَدْره فَلْيَنْفُثْه. فَعَجب الناس من حُسن ما فصّل.
وقيل لأبي السَّمال الأسديّ أيامَ مُعاوية: كيف تركتَ الناس؟ قال: تركتُهم بين مظلوم لا يَنْتَصف، وظالم لا يَنتهي.
وقيل لشَبيب بن شَيْبة عند باب الرَّشيد: كيف رأيتَ الناس؟ قال: رأيت الداخلَ راجيًا، والخارج راضيًا.
وقال حسّان بن ثابت في عبد الله بن عبّاس:
إذا قال لم يَتْرك مَقالا لقائلٍ ** بمْلْتَقطات لا نَرَى بينها فَضْلا

كَفي وَشَفي ما في النُّفوس ولم يَدَعْ ** لذي إِرْبة في القَوْل جِدًّا ولا هَزْلا

ولَقي الحُسين بن عليّ رضوان الله عليهما الفرزدقَ في مَسيره إلى العراق، فسأله عن الناس، فقال: القُلوب معك، والسُّيوِف عليك، والنَّصر في السماء.
وقال مُجاشع النهشلي: الحق ثَقيل، فمَن بَلَغه اكتفي، ومن جاوزه اعتدى.
وقيل لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام: كم بين المَشرق والمَغرب؟ فقال: مَسيرة يوم للشمس؛ قيل له: فكم بين السماء والأرض؟ قال: مَسيرة ساعة لدَعْوة مُستجابة.
وقيل لأعْرابي: كم بين مَوْضع كذا وموضع كذا؟ قال: بَياضُ يوم وسَواد ليلة.
وشكا قوم إلى المَسيح عليه السلام ذنوبهم، فقال: اتركوها تُغفَر لكم.
وقال عليُّ بنُ أبي طالب رضي الله عنه: قِيمة كلِّ إنسان ما يحسن.
وقيل لخالد بن يَزيد بن مُعاوية: ما أقربُ شيء؟ قال: الأجل؛ قيل له: فما أبعدُ شيء؟ قال: الأمل؛ قيل له: فما أوْحش شيء؟ قال: الميّت؛ قيل له: فما آنس شيء؟ قال: الصاحب المُواتي.
مَرّ عمرو بن عُبيد بسارق يُقْطع، فقال: سارق السَّريرة يَقطع سارق العلانية. وقيل للخليل بن أحمد: مالك تَرْوي الشِّعر ولا تَقُوله؟ قال: لأني كالمِسَنّ، أشْحذ ولا أقْطع.
وقيل لعَقِيل بن علَّفةَ: ما لَك لا تطيل الهجاء؟ قال: يَكْفيك من القِلادة ما أَحاط بالعُنق.
ومَرِّ خالد بن صَفْوان برجل صَلَبه الخَلِيفة، فقال: أَنْبتته الطاعة، وحَصَدته المَعْصية.
ومرَّ أَعرابيّ برجل صَلبه السلطان، فقال: مَن طَلّق الدنيا فالآخرة صاحبتُه، ومن فارق الحق فالْجذْع راحلتُه.
ومن النطق بالدِّلالة ما حدّث به العبَّاس بن الفرج الرِّياشي قال: نزل النعمان بن المنذر ومعه عديّ بن زيد العِبَاديّ في ظل شَجرة مُورقة ليلهوَ النعمان هناك، فقال له عَدِيّ: أبيتَ اللعنَ، أتدري ما تقول هذه الشجرة؟ قال: ما تقول؟ قال تقول:
رب شَرْبٍ قد أناخُوا حولَنا ** يَمْزُجون الخمرَ بالماء الزُّلالْ

ثم أضحَوْا عَصَف الدهرُ بهم ** وكذاك الدهرُ حال بعد حال

فتَنغّص على النعمان ما هو فيه.
وقال ابن الأعرابي: قلت للفضل: ما الإيجاز عندك؟ قال: حذف الفضول، وتقريب البعيد.